الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (90): {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)}{وَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} عطف على {قَالَ الملأ} [الأعراف: 88] إلخ والمراد من هؤلاء الملأ يحتمل أن يكون أولئك المستكبرين وتغيير الصلة لما أن مناط قولهم السابق هو الاستكبار ويكون هذا حكاية لإضلالهم بعد حكاية ضلالهم على ما قيل، ويحتمل أن يكون غيرهم ودونهم في الرتبة شأنهم الوساطة بينهم وبين العامة والقيامة بأمورهم حسا يراه المستكبرون، أي قالوا لأهل ملتهم تنفيرًا لهم وتثبيطًا عن الايمان بعد أن شاهدوا صلابة شعيب عليه السلام ومن معه من المؤمنين فيه وخافوا أن يفارقوهم {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا} ودخلتم في ملته وفارقتم ملة آبائكم {إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون} أي مغبونون لاستبدالكم الضلالة بالهدى ولفوات ما يحصل لكم بالبخص والتطفيف فالخسران على الأول استعارة وعلى الثاني حقيقة وإلى تفسير الخاسرين بالمغبونين ذهب ابن عباس، وعن عطاء تفسيره بالجاهلين، وعن الضحاك تفسيره بالفجرة؛ وإذا حرف جواب وجزاء معترض كما قال غير واحد بين اسم إن وخبرها. وقيل: هي إذًا الظرفية الاستقبالية وحذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين، ورده أبو حيان بأنه لم يقله أحد من النحاة، والجملة جواب للقسم الذي وطأته اللام بدليل عدم الاقتراب بالفاء وسادة مسد جواب الشرط وليست جوابًا لهما معًا كما يوهمه كلام بعضهم لأنه كما قيل مع مخالفته للقواعد النحوية يلزم فيه أن يكون جملة واحدة لها محل من الإعراب ولا محل لها وإن جاز باعتبارين..تفسير الآية رقم (91): {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)}{فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي الزلزلة كما قال الكلبي وفي سورة هود {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} [هود: 94] أي صيحة جبريل عليه السلام، ولعلها كانت من مبادي الرجفة فأسند إهلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى، وقال بعضهم: إن القصة غير واحدة فإن شعيبًا عليه السلام بعث إلى أمتين أهل مدين وأهل الأيكة فأهلكت أحدهما بالرجفة والأخرى بالصيحة، وفيه أنه إنما يتم لو لم يكن هلاك أهل مدين بالصيحة، والمروي عن قتادة أنهم الذين أهلكوا بها وأن أهل الأيكة أهلكوا بالظلة.وجاء في بعض الآثار أن أهل مدين أهلكوا بالظلة والرجفة، فقد روى عن ابن عباس وغيره في هذه الآية إن الله تعالى فتح عليه بابًا من جهنم فأرسل عليهم حرًا شديدًا فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشد حرًا من الظاهر فخرجوا إلى البرية فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم فوجدوا لها بردًا فنادى بعضهم بعضًا حتى اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبياهم فألهبها عليهم نارًا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادًا. ويشكل على هلاكهم جميعًا نساء ورجالًا ما نقل عن عبد الله البجلي قال: كان أبو جاد وهو زو حطى وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب عليه السلام كلمن فلما هلك يوم الظلة رثته ابنته بقولها:اللهم إلا أن يقال: إنها كانت مؤمنة فنجت، وقد يقال: إن هذا الخبر مما ليس له سند يعول عليه.{فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين} تقدم نظيره. .تفسير الآية رقم (92): {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)}{الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم: {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا} [الأعراف: 88] والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} أي لم يقيموا في دارهم، وقال قتادة: المعنى كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، وذكر غير واحد أنه يقال: غنى بالمكان يغني غني وغنيانًا إذا أقام به دهرًا طويلًا، وقيده بعضهم بالإقامة في عيش رغد، وقال ابن الأنباري كغيره: إنه من الغنى ضد الفقر كما في قول حاتم:وعلى هذا تفسير قتادة، ورد الراغب غنى عنى أقام إلى هذا المعنى فقال: غنى بالمكان طال مقامه فيه مستغنيًا به عن غيره، وقول بعضهم في بيان الآية: إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل المعنى، وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي الصلة فكأنه قيل: الذي كذبوا شعيبًا هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك الأبد، ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه السلام نجوا نجاة الأبد، وهذا مراد من قال بالاختصاص في الآية، وقيل: إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو {الله يَبْسُطُ الرزق} [الرعد: 26] والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا الإهلاك المكذبين، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجًا لا دخول بعده دون شعيب عليه السلام ومن معه، وقوله تعالى: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين} استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير، واستفادة الحصر هنا أوشح من استفادته فيما تقدم، أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بقولهم {لَئِنْ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون} [الأعراف: 90] فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا المتبعون له عليه السلام المصدقون إياه عليه السلام، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بالانجاء كما وقع في سورة هود من قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} [هود: 94] إلخ، وفي الكشاف أن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما جرى عليهم. وأنت تعلم أن في استفادة ذلك كله من نفس هذه الآية خفاء، والظاهر أن مجموع الاسئنافين مؤذن به. وبين الطيبي ذلك بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتكرهم هامدين لا حراك بهم على التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم؟ فقيل: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها.ثم سأل أخصص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين} أي اختص بهم الدمار فجعلت الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر كقوله: وكذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم وجيء بتقوى الحكم والتخصيص وجعلت الصلة الثانية علة لوجود الخبر، وجاء تسفيه الرأي من الرد عليهم بعين ما تلفظوا به في نصح قومهم، والاستهزاء من الإشارة إلى أن ماجعلوه نصيحة صار فضيحة وانعكس الحال الذي زعموه؛ ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس. وأما استعظام ما جرى فمن قوله سبحانه: {كَأَن لَّمْ} إلخ وكذا من مجموع الكلام، ولايخفى أن القول بالاستئناف البياني في الجملتين وجعل الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر ليس بشيء، وقد ذكر غير واحد أن هذا الاستئناف من غير عطف جار على عادة العرب في مثل هذا المقام فإن عادتهم الاستئناف كذلك في الذم والتوبيخ فيقولون: أخوك الذين نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا أخوك الذي ظلمنا، وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول الثاني بدلًا من الضمير في {يُغْنُواْ} وأن يكون في محل نصب بإضمار أعني، وأن يكون الأول مبتدأ والخبر {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ} و{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} حال من ضمير {كَذَّبُواْ} وأن يكون الأول صفة للذين كفروا أو بدلًا منه وعلى الوجهين يكون {كَأَن لَّمْ} إلخ حالًا، وما اخترناه هو الأولى كما هو ظاهر فليتدبر. وقوله سبحانه: .تفسير الآية رقم (93): {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)}{فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ} تقدم الكلام على نظيره، بيد أن هذا القول يحتمل أن يكون تأنيبًا وتوبيخًا لهم وقوله سبحانه: {فَكَيْفَ ءاسى على قَوْمٍ كافرين} إنكار لمضمونه، أي لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والنصحية والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني {فَكَيْفَ ءاسى} أي لا آسي عليكم لأنكم لستم أحقاء بالأسى وهو الحزن كما في «الصحاح والقاموس» أو شدة الحزن كما في الكشاف ومجمع البيان، ويحتمل أن يكون تأسفًا بهم لشدة خزنه عليهم، وقوله سبحانه: {فَكَيْفَ} إلخ إنكار على نفسه لذلك، وفيه تجريد والتفات على ما قيل حيث جرد عليه السلام من نفسه شخصًا وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه والتفت على الخطاب إلى التكلم، وذكر بعض المحققين أن الظاهر أنه ليس من الالتفات والتجريد في شيء فإن قال يقتضي صيغة التكلم وهي تنافي التجريد، وإنما هو نوع من البديع يسمى الرجوع وهو العود على الكلام السابق بالنقض لأنه إذا كان قد أبلغتكم تأسفًا ينافي ما بعده فكأنه بدا له ورجع عن التأسف منكرًا لفعله الأول، وقد جاء ذلك كثيرًا في كلامهم ومن ذلك قول زهير:والنكتة فيه الإشعار بالتوله والذهول من شدة الحيرة لعظم الأمر بحيث لا يفرق بين ما هو كالمتناقض من الكلام وغيره، وابن حجة لا يفرق بين هذا النوع ونوع السلب والايجاب وكأن منشأ ذلك اعتماد في النوع الأخير على تعريف أبي هلال العسكري له ولو اعتمد على تعريف إمام الصناعة ابن أبي الأصبع لما اشتبه عليه الفرق، وعلى الاحتمالين في قوله سبحانه: {على قَوْمٍ} إلخ إقامة الظاهر مقام الضمير للإشعار بعدم استحقاقهم التأسف عليهم لكفرهم، وقرأ يحيى بن وثاب {فَكَيْفَ} بكسر الهمزة وقلب الألف ياء على لغة من يكسر حرف الضارعة كقوله: وإمالة الألف الثانية، هذا ثم إن شعيبًا عليه السلام بعد هلاك من أرسل إليهم نزل مع المؤمنين به كة حتى ماتوا هناك وقبورهم على ما روى عن وهب بنمنبه في غربي الكعبة بين دار الندوة وباب سهم. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام أما قبر إسماعيل ففي الحجر وأما قبر شعيب فمقابل الحجر الأسود، وروى عنه أيضًا أنه عليه السلام كان يقرأ الكتب التي كان الله تعالى أنزلها على إبراهيم عليه السلام، ومن الغريب ما نقل الشهاب أن شعيبًا إثنان وأن صهر موسى عليهما الصلاة والسلام من قبيلة من العرب تسمى عنزة وعنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وبينه وبين من تقدم دهر طويل فتبصر والله تعالى أعلم. .تفسير الآية رقم (94): {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)}{كافرين وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ} إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم المذكورة تفصيلًا، وفيه تخويف لقريش وتحذير، ومن سيف خطيب جيء بها لتأكيد النفي، وفي الكلام حذف صفة نبي أي كذب أو كذبه أهلها {إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا} استثناء مفرغ من أعم الأحوال {وَأَخَذْنَا} في موضع نصب على الحال من فاعل {أَرْسَلْنَا} وفي الرضى أن الماضي الواقع حالًا إلا إذا كان بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو، وقد كثر نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن دخول إلا في الأغلب الأكثر على الاسم فهو بتأويل الأمكر ما لي فصار كالمضارع المثبت وما في هذه الآية من هذا القبيل، وقد يجيء مع الواو وقد نحو ما لقيته إلا وقد أكرمني، ومع الواو وحدها نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن الواو مع إلا تدخل في خبر المبتدأ فكيف بالحال ولم يسمع فيه قد من دون الواو، وقال المرادي في شرح الألفية إن الحال المصدرة بالماضي المثبت إذا كان تاليًا لئلا يلزمها الضمير والخلو من الواو ويمتنع دخول قد وقول:نادر، وقد نصر على ذلك الأشموني وغيره أيضًا، والظاهر أن امتناع قد بعد إلا فيما ذكر إذا كان الماضي حالًا لا مطلقًا، وإلا فقد ذكر الشهاب أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدم فعل كما هنا. وإما مع قد نحو ما زيد إلا قد قام، ولا يجوز ما زيد إلا ضرب، ويعلم مما ذكرنا أن ما وقع في غالب نسخ تفسير مولانا شيخ الإسلام من أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدير قد كما في هذه الآية أو مقارنة قد كما في قولك: ما زيد إلا قد قام ليس على ما ينبغي بل هو غلط ظاهر كما لا يخفى، والمعنى فيما نحن فيه وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبيًا من الأنبياء عليهم السلام في حال من الأحوال الإحال كوننا آخذين أهلها {بالبأساء} أي بالبؤس والفقر {والضراء} بالضر والمرض، وبذلك فسرهما ابن مسعود وهو معنى قول من قال: البأساء في المال والضراء في النفس وليس المراد أن ابتداء الإرسال مقارن للأخذ المذكور بل إنه مستتبع له غير منفك عنه {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا من ذنبهم وينقادوا لأمر الله تعالى.
|